القتل الصامت من يقف وراء تاريخ طويل من الاغتيالات في لبنان وثائقيات_سكاي

القتل الصامت: تحليل لوثائقي سكاي نيوز عن الاغتيالات في لبنان

لبنان، هذه البقعة الجغرافية الصغيرة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، لطالما كانت مسرحاً لأحداث جسام، ومكاناً تتلاقى فيه مصالح إقليمية ودولية متضاربة. تاريخه الحديث، للأسف، مليء بالصراعات والحروب الأهلية، والأزمات الاقتصادية المتلاحقة، وفوق كل ذلك، سلسلة لا تنتهي من الاغتيالات التي طالت شخصيات بارزة في مختلف المجالات، السياسية والإعلامية والفكرية. هذه الاغتيالات، التي غالباً ما تبقى طي الكتمان، أو تُعلّق على شماعة فاعل مجهول، تُعدّ بمثابة القتل الصامت الذي ينهش في جسد الدولة والمجتمع، ويُضعف مؤسساته، ويقوّض دعائم استقراره.

وثائقي القتل الصامت الذي أنتجته سكاي نيوز، يقدم نظرة متعمقة ومؤثرة على هذه الظاهرة المأساوية في تاريخ لبنان الحديث. الوثائقي لا يكتفي بسرد وقائع الاغتيالات، بل يسعى إلى تحليل الأسباب الكامنة وراءها، وتحديد الجهات المستفيدة منها، ورسم صورة بانورامية للوضع السياسي والأمني الذي سمح بانتشارها واستمرارها. يركز الوثائقي على عدد من الاغتيالات البارزة، مثل اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والوزير بيار الجميل، والصحفي سمير قصير، والمفكر لقمان سليم، وغيرها، ويقدم مقابلات مع شخصيات مقربة من الضحايا، ومحللين سياسيين وأمنيين، وصحفيين متخصصين، وذلك بهدف إلقاء الضوء على جوانب خفية من هذه الجرائم.

أحد أبرز الجوانب التي يركز عليها الوثائقي هو الإفلات من العقاب الذي يتمتع به مرتكبو هذه الاغتيالات. ففي معظم الحالات، لا تصل التحقيقات إلى نتائج حاسمة، ولا يتم الكشف عن هوية الفاعلين الحقيقيين، أو الجهات التي تقف وراءهم. هذا الإفلات من العقاب يشجع على تكرار هذه الجرائم، ويساهم في ترسيخ ثقافة العنف والإرهاب السياسي في المجتمع. الوثائقي يطرح تساؤلات جدية حول دور الأجهزة الأمنية والقضائية في لبنان في الكشف عن هذه الجرائم، ويشير إلى وجود تدخلات سياسية تعيق عمل هذه الأجهزة، وتحول دون تحقيق العدالة.

الوثائقي لا يغفل أيضاً عن السياق الإقليمي والدولي الذي تجري فيه هذه الاغتيالات. فلبنان، بحكم موقعه الجغرافي وتنوعه الطائفي والعرقي، يعتبر ساحة صراع للنفوذ بين قوى إقليمية ودولية مختلفة. هذه القوى غالباً ما تستخدم الاغتيالات كوسيلة لتحقيق أهدافها السياسية، أو لزعزعة الاستقرار في البلاد، أو لتصفية حسابات مع خصومها. الوثائقي يشير إلى تورط جهات خارجية في عدد من الاغتيالات التي شهدها لبنان، ويقدم أدلة وقرائن تشير إلى ذلك. لكنه في الوقت نفسه، يؤكد على مسؤولية القوى السياسية اللبنانية في تهيئة المناخ الذي يسمح بتدخل هذه الجهات، وفي عدم التصدي لها بحزم وقوة.

من أبرز نقاط القوة في الوثائقي هو اعتماده على شهادات حية ومباشرة من أشخاص عايشوا هذه الأحداث، وعانوا من تبعاتها. هذه الشهادات تضفي على الوثائقي بعداً إنسانياً مؤثراً، وتجعل المشاهد يشعر بمعاناة الضحايا وعائلاتهم. كما أن الوثائقي يعتمد على تحليل معمق وموضوعي للحقائق والمعلومات، ويتجنب الانزلاق إلى التبسيط أو التحيز. الوثائقي لا يقدم إجابات جاهزة أو حلول سحرية، بل يطرح تساؤلات صعبة ومهمة، ويدعو إلى التفكير العميق في أسباب هذه الظاهرة وتداعياتها.

الوثائقي القتل الصامت ليس مجرد فيلم وثائقي، بل هو صرخة مدوية في وجه الظلم والإفلات من العقاب. هو دعوة إلى محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم، وإلى وضع حد لثقافة العنف والإرهاب السياسي في لبنان. هو أيضاً دعوة إلى بناء دولة قانون تحترم حقوق الإنسان، وتضمن الأمن والاستقرار للجميع. الوثائقي يذكرنا بأن لبنان لا يمكن أن ينهض ويتقدم إلا إذا تم الكشف عن الحقيقة كاملة بشأن هذه الاغتيالات، وتحقيق العدالة للضحايا وعائلاتهم.

الوثائقي، في نهاية المطاف، هو بمثابة مرآة تعكس صورة قاتمة عن واقع لبنان، ولكنه في الوقت نفسه، يحمل بصيص أمل في مستقبل أفضل. الأمل يكمن في قدرة اللبنانيين على تجاوز خلافاتهم وانقساماتهم، والتوحد من أجل بناء دولة قوية ومستقرة، تحترم تاريخها وتراثها، وتؤمن بمستقبلها الواعد.

لكن، وكما هو الحال في أي عمل إعلامي، يمكن توجيه بعض الانتقادات إلى الوثائقي. على سبيل المثال، يرى البعض أن الوثائقي يركز بشكل كبير على الاغتيالات التي طالت شخصيات سياسية وإعلامية بارزة، ويتجاهل الاغتيالات التي طالت شخصيات أقل شهرة، أو التي وقعت في سياق الصراعات الطائفية والمذهبية. كما يرى البعض الآخر أن الوثائقي لا يقدم تحليلاً كافياً لدور الفساد المستشري في الدولة في تسهيل وقوع هذه الاغتيالات، وفي عرقلة التحقيقات فيها.

على الرغم من هذه الانتقادات، يبقى الوثائقي القتل الصامت عملاً إعلامياً هاماً ومؤثراً، يستحق المشاهدة والمناقشة. الوثائقي يسلط الضوء على قضية حساسة ومهمة في تاريخ لبنان الحديث، ويدعو إلى التفكير العميق في أسبابها وتداعياتها. الوثائقي هو بمثابة تذكير دائم بأن العدالة هي أساس السلام والاستقرار، وأن الإفلات من العقاب هو بداية الفوضى والدمار.

في الختام، يمكن القول أن وثائقي القتل الصامت هو مساهمة قيمة في فهم تاريخ لبنان الحديث، وفي تحليل أسباب العنف والإرهاب السياسي فيه. الوثائقي هو دعوة إلى محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم، وإلى بناء دولة قانون تحترم حقوق الإنسان، وتضمن الأمن والاستقرار للجميع. الوثائقي هو أيضاً دعوة إلى التفكير العميق في مستقبل لبنان، وفي كيفية تجنب تكرار هذه المآسي في المستقبل.